Monday, February 13, 2012

الإسلام كلٌّ لا يتجزّأ - لسماحة الدكتور نوح علي سلمان


 
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فإن الإيمان بالإسلام يقتضي الإيمان برسالته في تنظيمِ أمورِ الدنيا وتأمينِ سعادة الآخرة، وهذا واضح لمن تدبَّر آياتِ اللهِ تعالى، والسنةَ النبويةَ الشريفةَ، والأحكامَ الفقهيةَ المستنبطةَ منها، قال الله تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) إبراهيم/1.
هذه خلاصة الرسالة الإسلامية: إخراجُ الناس من الظلمات إلى النور. والظلماتُ كثيرة كان الناس يتيهون فيها قبل أن يسطع نور الإسلام، ويمكن تلخيصها بما يلي:
أولاً: ظلمات الشرك التي تصدع الفؤاد وتحير الألباب: قال الله تعالى: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِن السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) الحج/31...
مخاوف متعددة تنتاب المشرك؛ إذ لا يدري أي إله يُرضي وأي إله يُسخِطْ؟! وهو ضعيف لا يستطيع مقاومتها كلها، وجاء نور الإسلام ليبدد الوهم والظلام، ويقول لكل إنسان: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) محمد/19، ويقول: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ) الأعراف/194.
وهكذا زال الخوف والظلام، واتجه الإنسان المؤمن بسعادة إلى الله الذي جعل فاتحة كتابه (بسم الله الرحمن الرحيم)؛ وصف نفسه بالرحمة المؤكدة؛ ليبين أن الرحمة أساس العلاقة بين الله وعباده، ومن رحمته إرسال الرسل إلى البشر، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء/107، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِئَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الخَلْقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا؛ خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ) رواه البخاري. ولهذا قال أهل العرفان: إن أدنى درجات التوكل على الله أن يثق الإنسان بربه ثقة الطفل بأمه لأنه أرحم منها.
ثانياً: أخرج الله بالإسلام الإنسان من ظلمات الجهل إلى نور العلم، وأشد الجهل جهل الإنسان بربه ونفسه والكون من حوله، وقد تبدّد الجهل عندما نزل قول الله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) العلق/1؛ أي: اقرأ قراءة إيمانية تنطلق من الإيمان بالخلق، فهي الحقيقة الأولى التي لا يجوز أن تغفل. وقال تعالى: (قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) يونس/101، وقال تعالى: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) الذاريات/21، وبالقراءة والنظر والتدبر خرج المسلمون من ظلمات الجهل إلى نور العلم، وتسابقوا في طلب المعرفة عندما سمعوا قول الله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) الزمر/9؛ أي: لا يستوي العالم والجاهل؛ فالعالم أفضل وأقرب إلى نور الله تعالى.
ثالثاً: أخرج الله الإنسان من ظلمات الطبقية التي تقوم على أساس اللون والمال والقبلية واللغة والدار، إلى نور العدالة بإتاحة الفرص المتكافئة أمام الجميع. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) الحجرات/13، فرأينا مواهب تنطلق، وكفاءات تظهر؛ لتفيد المجتمع، وما كان لها أن تنطلق لولا نور المساواة الإسلامية.
رابعاً: وأخرج الله الناس من ظلمات حكم الطواغيت والجهلة والمنجمين وأصحاب الشهوات، إلى نور حكم الله؛ خالق الإنسان، والعالم بمصالحه وظاهره وباطنه. قال تعالى: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) تبارك/14.
لقد ساد نور القانون الإسلامي الذي يُعامل الناس بالسواسية، ويسن لهم الأنظمة التي تحقق مصالحهم؛ فصارت القاعدة في التشريع الإسلامي: (لا ضرر ولا ضرار) رواه ابن ماجه، هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإلى جانبها قاعدة أخرى من كلامه عليه السلام هي: (احْرِصْ على ما يَنْفَعُك) رواه مسلم.
والباحث في سيرة الأشخاص والشعوب يرى الآثار المباركة للإسلام في سلوكهم بعد أن اعتنقوا هذا الدين، ولولا الإطالة لذكرتُ نماذج من ذلك، ومَن منا لا يحفظ بعض هذه الأمثلة، وفي هذا يقول الله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) الأنعام/122.
لقد كان سلوك الإنسان يتغير بمجرد النطق بالشهادتين إعراباً عن دخوله في الإسلام؛ وذلك لأن معنى (أشهد أن لا إله إلا الله): أُقر وأعترف بأن صفات الألوهية ليست إلا لله. ومن صفات الألوهية: الخَلْقُ من العدم، والقدرة على كل شيء، وملك الكون بما فيه لأن الكون مخلوق لله تعالى.
فشهادة أن لا إله إلا الله: اعتراف بحق أن الإنسان مُلكٌ لله العالم الرحيم الحكيم، وعلى الإنسان أن يطيع الله فيما أمر، ويعمل بإرشاداته وتوجيهاته. أما أن يعترف بأنه مِن خَلْقِ الله ومملوك لله، ثم يأتمر بأمر غير الله؛ فهذا تناقض!
لكن كيف يُطيع الإنسان ربَّه عز وجل وهو لم يسمع منه مباشرة؟ الجواب في الجزء الثاني من الشهادة: (وأشهد أن محمداً رسول الله)؛ أي: أعترف بأن محمداً مبلغ عن الله، ويجب أن أطيعه طاعةً لله. قال الله تعالى: (مَنْ يُطِع الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) النساء/80؛ فكان أحدهم إذا أسلم يبحث عن كل تعليم أو توجيه سُمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ ليعمل به بحرص ومحبة وثقة واعتزاز، وهذه ميزة الجيل الأول من هذه الأمة ومن تبعهم بإحسان.
هذه مسلَّمات في العقيدة الإسلامية، وعليها قام الحكم الإسلامي في كل القرون، وكل طالب علم يعرف أن الحاكم هو الله، وأما الخليفة أو الإمام أو السلطان أو أمير المؤمنين أو الملك؛ فهو منفذ لحكم الله؛ ولذا (لا طاعه لمخلوق في معصية الله) والفقيه يبحث عن حكم الله بالوسائل العلمية التي تعلمها من كتاب الله وسنة رسول الله ومقتضى الفكر الصحيح.
ومن تدبر ما في الكتاب والسنة رأى فيهما كل ما يُسعد الإنسان في الدنيا والآخرة؛ ففيهما الأمر بالصدق، والعدل، والأمانة، والنظافة، وكل خلق فاضل سواء تعلق بالتصرف الشخصي، أو التعامل مع الآخرين أفراداً وجماعات.
فكما قال الله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) البقرة/238؛ قال: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) آل عمران/103.
وكما قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) التوبة/119؛ قال: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) التوبة/123.
وكما قال: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً) الإسراء/32؛ قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) المائدة/51.
وفي آية واحدة قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) النساء/58.
فهذه تعاليم وأوامر تتعلق بالفرد والمجتمع على حد سواء، وهي قضية واضحة جداًً لدى كل مسلم مهتم بدينه، متدبر لآيات الله عز وجل، وكما أن الذي يستخف بالصلاة كافر؛ فإن الذي يستخف بأي حكم من أحكام الشريعة كافر. قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) المائدة/44، والذي يشرب الخمر ويستغفر؛ مسلم عاصٍ، والذي يخالف حكم الله لغرض شخصي مع الإيمان بصحة الحكم الشرعي؛ مسلم عاصٍ. قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) المائدة/47.
ولقد رأينا في هذا الجيل من يُطلق كلمة (مؤمن) على كل من اعترف بوجود الله، وإنْ رفض الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، واستهزأ بأحكام القرآن الكريم، ورأى أنها غير صالحة لهذا العصر!
ولم يفطن هؤلاء القوم إلى أن إبليس مؤمن بوجود الله وبربوبيته، ومؤمن بالملائكة فقد كان يعيش معهم، ومؤمن باليوم الآخر فقد قال عندما لعنه الله تعالى: (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) الحجر/36؛ فهو معترف بربوبية الله وبيوم البعث، فمن أين جاءه الكفر؟ لقد صار رأس الكفر لأنه اعتقد أن حكماً من أحكام الله مخالف للصواب؛ ولذا قال: (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) الإسراء/61،  وبرر جريمته بقوله: (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) الأعراف/12، ولم يفطن الجاهل إلى أن النار تحرق الأحياء، وبالطين تنمو الأحياء!
فماذا يُقال للجاهلين الذين يرفضون أحكام الله تعالى إذا لم يعرفوا وجه الحكمة فيها؟! إن مقتضى الإيمان بالله طاعة كل ما بلغنا عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، سواء تعلق بسلوك الفرد أو الجماعة (أي الدولة)؛ فكله دين يجب العمل به، بل إن قولنا: "الأحكام الدينية والأحكام الدنيوية" هو على سبيل التجوُّز، وإلا فكل أحكام الشريعة دين مهما كانت تعلقاتها.
إن المطالبة بفصل الدين عن السياسة يرجع إلى سبب من الأسباب التالية:
1. عدم الإيمان بالإسلام كله، لكن الذين يكفرون بالإسلام لا يستطيعون منع الناس من العبادة لأنها أمر شخصي؛ فيريدون التحلل من أحكام الإسلام التي تُطبَّق على المجتمع؛ كيلا تُطبَّق عليهم، مثل وجوب الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأداء الزكاة، والتكافل الاجتماعي، ومنع الربا والخمر، وخلطة الرجال بالنساء بلا ضوابط شرعية.
وهؤلاء عليهم أن يبحثوا ويقارنوا الإسلام بغيره من الأديان والأنظمة؛ عسى أن يصلوا إلى الإيمان الحق، ومقتضى العقول السليمة؛ فلا يخسروا أنفسهم يوم القيامة، فإن الكافرين يشهدون على أنفسهم يوم القيامة أنهم ما كانوا يعقلون: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) الملك/10، وقال تعالى: (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) الأنعام/12، وعلى الأمة الإسلامية أن تعرفَ هؤلاء وتحذََرهم؛ فهم أعداء الإسلام.
2.  اعتقاد البعض بأن الإسلام كالنصرانية، وكما أمكن فصل الدين عن السياسة لدى النصارى؛ يمكن أن يكون هذا لدى المسلمين!
وهذا جهل كبير؛ لأن النصرانية ليس فيها أحكام تتعلق بشؤون الدنيا، والإنجيل ليس فيه مراسيم العبادة؛ فهو قصة قصيرة لحياة المسيح عليه السلام، يختلف الرواة في تفاصيلها.
ولَمّا حكم رجال الدين عندهم شرعوا للناس أحكاماً من عندهم، وقالوا: "هذا شرع الله". ولَمّا وقع الظلم على الناس بسبب هذه الأحكام؛ ثاروا على رجال الدين، وفصلوا الدين عن السياسة.
أما الإسلام ففيه الأحكام الربانية التي عاش بها المسلمون أسعد أيام حياتهم، ولَمّا أُجبروا على تركها ساءت أحوالهم.
فأين هذا من ذاك؟! لا أحد يطالب اليوم بإعادة حكم الكنيسة؛ لأنهم ما سعدوا بها. وشباب الإسلام  اليوم يبذلون أنفسهم رخيصة ليعود المجتمع إلى الإسلام ويسعد به.
3. عدم الاطلاع التام على أحكام الشريعة الإسلامية وحِكَمِها؛ فبعض المسلمين لا يعرفون عن الإسلام إلا ما سمعوه من أعداء الإسلام، أو من المجتمع البعيد عن الإسلام، وقد قيل: (مَن جهل شيئاً عاداه). وهؤلاء عليهم أن يبحثوا باهتمام وتجرد ونزاهة، ويتعرفوا على الإسلام من علماء المسلمين لا من أعداء الإسلام.
إن الشريعة الإسلامية التي قام عليها المجتمع الإسلامي قروناً طويلة رغم ظلم الظالمين وانحراف المنحرفين؛ لهي شريعة عظيمة مفصلة، وها نحن نرى اليوم الباحثين يقارنون بين الشريعة الإسلامية والقوانين الأخرى في كل مجالات الحقوق من دستورية وإدارية ودولية، ومدنية وجزائية وأحوال شخصية وأصول المحاكمات وطرق الإثبات، وفي كل هذه البحث يُثبتون تفوق الشريعة الإسلامية؛ لأنها شريعة الله العليم الخبير، وقد أثّرت هذه الشريعة في كثير من القوانين العالمية بطريقة أو بأخرى.
والبحث الصادق النزيه يقود إلى المعرفة، وقد كتب أحد الدعاة إلى النصرانية كتاباً سماه: "حاربتُ الإسلامَ عشرين عاماً ثم غلبني"!
4. مما يصرف البعض عن الإسلام تصرفات بعض المحسوبين على الإسلام، وهذه مشكلة كبيرة يتحمل وزرها الذين شوهوا الإسلام بأعمالهم؛ ففي السابق واللاحق وقع بعض المسلمين في أخطاء صدت عن سبيل الله، ونفَّرت من الإسلام.
والحقيقة أن الإسلام واحد، لكن طريقة التعبير عنه تختلف باختلاف الاشخاص والبيئات والثقافات... ولكن العاقل لا يُحمِّل الإسلامَ إثمَ ما يفعله المحسوبون على الإسلام؛ وذلك للأمور التالية:
أ. من المتفق عليه بين المسلمين أن الإسلام حَكَمٌ على الأشخاص وليس العكس، ولا أحد يُعَدُّ سلوكه ديناً وحجة في الإسلام إلا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومعنى ذلك أن سلوك الشخص والجماعة محسوب على أصحابه، ومن أراد معرفة الإسلام؛ فليرجع إلى الكتاب والسنة والمصادر المعتبرة.
ب. إن الإسلام ليس وقفاً على أحد، بل كل إنسان يمكن أن يُسْلِمَ ويصبحَ وليّاً من أولياء الله، وعالماً من علماء المسلمين، فإذا لم يعجبك تصرف المحسوبين على الإسلام؛ فتقدم أنت وتعلم الإسلام، وعبِّر بسلوكك تعبيراً صادقاً عن الإسلام، واجعل من نفسك نموذجاً طيباً لهذا الدين، أما أن يفتي أحد في الإسلام بغير علم؛ فهذا استخفاف بالدين وضلال مبين.
ج. إن الإنسان خطّاء، والعصمة لأهل العصمة، وما سواهم غير معصوم؛ فاحتمال الخطأ وارد؛ فلا تُحَمِّل خطأ الأشخاص على الدين.
5. من أسباب المطالبة بفصل الدين عن السياسة: المقارنة بين الماضي والحاضر؛ فإن بعض الناس يُقارن بين الوضع الاجتماعي والاقتصادي للناس يوم ظهر الإسلام، وبين وضعهم اليوم؛ فيظن أن ما صلح للماضي لا يصلح للحاضر.
وهؤلاء أيضاً بحاجة إلى أن يسألوا أهل الذكر من العلماء والخبراء بشأن هذا الدين؛ فإن الشريعة الإسلامية لم تُهْمِل أمرَ التطور، والذي أنزل الشريعة يعلم ما يؤول إليه حال الناس، ولذا نجد أن ما يتعلق بالجوانب الثابتة من حياة الناس جعل الله له أحكاماً مفصلة ثابتة؛ كالطهارة، والصلاة، والصيام، والزكاة، وبر الوالدين، والإحسان إلى الأرحام والجيران، وإغاثة الملهوف، وغير ذلك مما يتعلق بأمور ثابتة.
وأما الأمور المتغيرة فقد وضع الله لها قواعد وترك التفصيل إلى أهل العلم، مثلاً:
أَمَرَ بالشورى في الحكم، لكن كيف؟ متروك للزمان، والمهم أن لا يقع الاستبداد.
أمر بالإنفاق على الزوجة والأرحام، لكن كيف؟ لكل زمان ومكان ما يلائمه.
نهى عن أكل مال الناس بالباطل، لكن كيف تتم المعاملات التجارية والمبادلات الاقتصادية؟ هذا تفصيله للعلماء بالإسلام والزمان.
وهكذا كل الأحكام المتعلقة بما يتغير من أحوال الناس، وإذا كان البعض لا يلاحظ هذا الفرق فليس عملهم وقولهم حجة على الإسلام.
أما قضية القضايا في الحياة الاجتماعية فموضوع المساواة - أو عدم المساواة - بين المرأة والرجل، والذي يلاحظ طبيعة الرجل والمرأة وأحكامهما في الشريعة الإسلامية يجد أن ما تتساوى به المرأة مع الرجل فالأحكام فيه متساوية: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ... أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) الأحزاب/35.
فهم في أمر الدين سواء، وكذلك في الأحكام المتعلقة بإنسانية الإنسان؛ كالملك والتصرفات الاقتصادية... إلخ، وهذا مجال واسع منه: استشارتها بالقضايا العامة مع مراعاة حدود الله.
أما ما تتفوق به المرأة على الرجل فهي مقدمة فيه على الرجل؛ فهي أحق بحضانة الأطفال عند تفرق الزوجين لسبب ما، وهي أولى منه في كل القضايا الخاصة بالنساء؛ كالتعليم والتطبيب وإدارة المجمعات النسائية؛ من جمعيات وغيرها، وكذلك الاستشارة فيما يتعلق بالنساء.
وأما ما يتفوق فيه الرجل فهو مقدم فيه على المرأة؛ كالجهاد وقيادة الجيوش وتعليم الرجال وتطبيبهم.
تبقى الرئاسة العامة للدولة وما في حكمها، وهذه للرجال؛ لأنهم أقدر على إدارتها ومعالجة أمورها وما تقتضيه من خلطة بالرجال البَرِّ منهم والفاجرِ. وقد قال الله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) النساء/34، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً) رواه البخاري.
إن الإسلام لا يحتقر المرأة؛ فهي الأم والأخت والزوجة والبنت والعمة والخالة، وحقها مقدم على مَن في درجتها من الرجال، وفيهن العالمة والصالحة والولية لله تعالى، وهي مربية الرجال وصانعة الأبطال وسند المقارعين للباطل، لكن قضية الولاية العامة لها مواصفاتها التي لا تتوفر في النساء، وحسبها أن تكون رئيسة لكل تجمع نسائي، والنساء نصف المجتمع.
لقد أولع بعض نساء المسلمين بتقليد النساء الغربيات حتى في أمر الولاية العامة، والخروج من البيت للعمل في كل الميادين، مع إهمال البيت والزوج والأطفال، وتركهم لتربية الخدم ومؤسسات الحضانة، ولو سمعت المسلمة ما تعاني منه الغربية بسبب خروجها من البيت؛ لعلمت أن الإسلام أكرمها يوم فرغها لأهم واجب: إنه إنشاء الجيل الصالح من أبناء وبنات.
قد تكون امرأة فذة لها من الرأي والعلم ما يجعلها موضع ثقة؛ فتُستشار في الأمور المتفوقة فيها مع رعاية أحكام الشريعة، أو تُعلم الرجال والنساء مع الصيانة والحشمة، أو تتولى من الأمور العامة ما يسمح لها الشرع بتوليه.
كما أولع بعض الرجال بكبح كل مطالبة للنساء بحقوقهن حتى ولو كانت جائزة شرعاً!
مثلاً: نص الفقهاء على أن المرأة لا يجب عليها أن تخدم زوجها، ولا أن تُرضع ولدها منه، فمن يُطيق أن يسمع هذا من الرجال؟!
إن كلاًّ من الرجال والنساء يريد أن يوظف الشريعة الإسلامية لمصلحته، والشريعة أكبر من هذا وأجلُّ، والمسلم والمسلمة يحتكم إلى الشريعة ثم يرضى بحكمها. قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) الأحزاب/36.
وعلماء الشريعة الراسخون يعرفون حدود الرجل والمرأة في التعامل مع القضايا العامة، ويعرفون ما بُني على النص مما بُني على العرف وسد الذرائع. ولا ننسى أن صيانة الأعراض وتربية الأجيال أهم من التنمية الاقتصادية، وأن اليهود والنصارى لن يرضوا عنا حتى نتبع ملتهم، ولو اتبعناها - لا سمح الله - لَكُنّا عندهم من الدرجة الثانية.
ومن العجيب أن يحتج البعض لولاية المرأة العامة بما كان من أمر (ملكة سبأ) التي ذكرها الله في القرآن، وينسى أن مُلكها لم يكن شرعيّاً، بل ثمرة لنظام جاهلي تُعبَد فيه الشمس من دون الله، وشَرْعُ مَن قبلنا ليس شرعاً لنا إذا رده شرعنا، وهذا بالإجماع؛ فكيف إذا لم يكن شرعاً. المهم أن تقليد الكافرين هو الذي أوجد هذه المشكلة.
6. ومن أسباب المطالبة بفصل الدين عن الدولة: أن بعض الناس يظن أن التطور المدني ووجود المخترعات الحديثة لا يُلائمه حكم الشريعة الإسلامية، مع أن الإسلام لا يُعارض الاختراع والاستفادة مما في الكون، بل يشجع عليه، والشريعة تحكم على فعل الناس لا على فعل الآلات؛ فالجهاد واجب سواء كان بالسيف أو بالصواريخ الموجهة، وإغاثة الملهوف واجبة سواء بإخراجه من الماء وإطعامه من الجوع أو بإجراء عملية جراحية له بأشعة الليزر، والتجسس على المسلمين حرام سواء كان باستراق السمع أو بمراقبة الهاتف. وأقرب من هذا إلى أذهان المشغوفين بحضارة الكافر المستعمر أن الذين اخترعوا الاختراعات العجيبة ما زالت محاكمهم تحكم بقوانين ترجع أصولها إلى ما قبل الإسلام من رومانية وإغريقية.
هذه أسباب المطالبة بإسلام معزول عن الحياة أو (إسلام أمريكي)، وأخطر منه من يُحرِّف الإسلام ليوافق ما عند الكافرين، والخطر فيه أنه يريد تحكيم الكافرين بالمسلمين تحت غطاء إسلامي، كمن يُلبس قسيساً عمامةً ليصلي بالمسلمين! أو يكتب على زجاجة الخمر: (ماء زمزم)؛ ليغش المسلمين! والإسلام واضح المعالم ثابت القواعد عرفه المسلمون بالممارسة خلال قرون، وثبَّت الله قواعده بالكتاب الكريم والسنة المطهرة.
إن زوال دولة المسلمين في كثير من الأقطار هو الذي جرّأ السفهاء على الإسلام وأهله، وورود الأفكار الاجتماعية المخالفة للإسلام مع زخرف المدنية الجديدة هو الذي زيّن تلك الأفكار، والذين رفضوا الأفكار والزخرف الغربي أخطأوا، والذين قبلوهما معاً أخطأوا، والواجب الشرعي يقتضي أن نُفرِّق بين الزخرف والأفكار؛ فما خالف ديننا رفضناه، وما لم يعارض ديننا سخرناه لمصالحنا الدينية والدنيوية.
وعندما يبرز للعالم نموذج متكامل للحكم الإسلامي، يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها، ويزيل التعارض الموهوم بين الأحكام الشرعية والوسائل المدنية المعاصرة؛ سيعرف الناس جمال الإسلام، وتسهل الدعوة إليه، ويكثر الإقبال عليه؛ لأنه سيكون النموذج المنشود للحياة الكريمة على الأرض.
فإن الذين دخلوا في الإسلام في العهد النبوي بعد الهجرة أضعاف الذين دخلوا فيه قبل الهجرة، وما ذلك إلا لأن الناس رأوا نموذجاً حياً للمجتمع الإسلامي بعد الهجرة وقيام الدولة الإسلامية؛ ولهذا اتفق الصحابة الكرام على أن تكون الهجرة بداية التأريخ الإسلامي؛ لأنها بداية قيام الدولة الإسلامية وقيام النموذج الكامل للإسلام.
واليوم نجد الإنسان المسلم - المتمسك بدينه المتفوق في مجال تخصصه - مصدر جذب للإسلام؛ لأنه يقدم من نفسه أبلغ أسلوب للدعوة؛ ولهذا أيضاً حرص أعداء الإسلام على تشويه سمعة المسلمين والمتدينين والمشايخ والمحسوبين على الإسلام؛ لأن الطعن في الإسلام يثير حميَّة المسلمين؛ ولذا يطعنون في وعاء الإسلام وحملة رايته؛ يضخمون أخطاءهم، ويتصيدون عثراتهم، وكأن السوء فيهم فقط، وغيرهم معصوم من الخطأ مبرأ من الإثم.
ومن هنا كان قيام دولة إسلامية أبلغ أسلوب في الدعوة إلى الإسلام... وكما قام الإسلام بجهود السابقين الأولين من هذه الأمة؛ يجب أن نبذل الجهد ونقدم التضحيات، والله منجز وعده كما يشاء...
لكن الطريق ما يزال طويلاً، والمشاكل متجددة ما تجدد الليل والنهار والأجيال والأحوال؛ فالحياة لا تجمد عند حد.
إن الظروف المستجده تملي على حملة لواء الإسلام أن يوائموا بين هذه المستجدات وأحكام الشريعة الإسلامية، وأن يستعينوا على حل المشاكل بما جاء في كل المذاهب الإسلامية، وهذا لا يستطيعه إلا العلماء الراسخون في علم الشريعة، العالمون بمتطلبات العصر، وهذا يعجز عنه الكثير من المحسوبين على الشريعة.
ولذا يعجب الإنسان عندما يرى من تراوده نفسه أن يكون في قمة الدولة الإسلامية، وهو لا يعرف أحكام الشريعة؛ إذ لم يتخصص بها، ويريد إقصاء المتخصصين ليفسح المجال لغيرهم، وكأن القضية قضية شخصية ومطمع دنيوي!
إنها شريعة الله يا قوم! والخطأ فيها ليس كالخطأ في القوانين الدنيوية... إن طاعة ولي الأمر فيما ليس فيه نص طاعة لله؛ فكيف يعرف حدود صلاحياته من لا يعرف حدود الشريعة؟!
هل يُقبَل أن يكون مهندس مديراً لمستشفى ومن فيه من أطباء؟! أو أن يكون طبيب مديراً لمشروع هندسي؟! إذن كيف يدير مؤسسة تقوم على أحكام الشريعة من لا يعرف أحكام الشريعة؟! إن هذا كذاك، فأين تذهبون؟!
لا تظنوا أن الأمر احتكار للسلطة، بل هو منطق الأشياء، والذي يريد أن يخدم الإسلام سيجد له مكاناً رحباً في خدمة الإسلام! ألا ترون عليا بن أبي طالب رضي الله عنه - على ما في نفسه من أمر الخلافة عندما لم يبايع بها بادئ الأمر - خدم الإسلام خدمات جليلة وعظيمة في مجالات أخرى، وأقواله في الزهد في الإمارة بعد أن وليها مشهورة.
لقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الراغب في الولاية لا يصلح لها فقال: (إنّا لا نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ) متفق عليه، أما الذين لا يرغبون في السلطة فسوف يكون أداؤهم متميزاً إذا ساقتهم المقادير إليها. قال صلى الله عليه وسلم: (وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً) متفق عليه، وقال: (إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ القِيَامَةِ، فَنِعْمَ المُرْضِعَةُ، وَبِئْسَتِ الفَاطِمَةُ) رواه البخاري.
ولا يظنن أحد أن سدة الحكم كرئاسة الحلقة العلمية؛ فالحلقة العلمية يرأسها الأعلم، والأعلم يُعرف بممارسة التعليم والفتوى وإقبال العلماء والطلاب عليه، وسدة الحكم يتولاها العالم الذي حاز جميع شرائط الولاية، والعلم الواسع أحد تلك الشروط.
إن العمل بالشريعة الإسلامية سبب السعادة في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) الحج/41، الصلاة حق الله تُنعش الروح، والزكاة حق الفقير تُنعش المجتمع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تطهيرٌ للمجتمع من رجس المنافقين والمنحرفين.
وقال الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) النحل/97.
والبُعد عن منهج الله عذاب في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) طه/124.
أسأل الله أن يُسعدنا بالإسلام في الدنيا والآخرة، وأن يُعزنا بالإسلام ويُعز الإسلام بنا. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
والحمد لله رب العالمين
http://www.aliftaa.jo/index.php/ar/articels/show/id/145