قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى:[حسن الخلق يقوم على أربعة أركان لا يتصور قيام ساقه إلا عليها؛ الصبر والعفة والشجاعة والعدل] وعند ابن مسكوية الحكمة بدل الصبر .
الصبــر
الصبر لغة: الحبس.
الصبر اصطلاحاً: حبس النفس على طاعة الله تعالى حتى لا تفارقها، وعن معصية الله تعالى حتى لا تقربها، وعلى قضاء الله تعالى حتى لا تجزع له ولا تسخط عليها .
فالصبر إذاً له ثلاثة أنواع هي:
أولاً: صبر على طاعة الله تعالى: وذلك أن العبادات من أركان وغيرها تحتاج إلى صبر لآدائها والمداومة عليها؛ فبعضها قد يكون ثقيلاً على البدن بسبب النفقة والتعب كالحج، وبعضها يكون ثقيلاً بسبب البخل كالزكاة والصدقة، وبعضها يكون ثقيلاً لمشقة المداومة والحفاظ على المواقيت كما في الصلاة. ولهذا قال سبحانه (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ) وقال عز وجل: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)والاصطبار هو المبالغة في الصبر.
ثانياً: صبر عن معصية الله تعالى وهو أن يكف الإنسان نفسه عما حرم الله تعالى؛ بمجاهدة نفسه الأمارة بالسوء: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) والشيطان، وقرين السوء؛ فقد ابتلى الله تعالى عباده بعضهم ببعض، يزين بعضهم لبعض المعاصي ويدعو بعضهم بعضاً إلى الشهوات قال سبحانه: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) قال العلامة ابن كثير رحمه الله:[أي اختبرنا بعضكم ببعض وبلونا بعضكم ببعض، لنعلم من يطيع ممن يعصي].
ثالثاً: الصبر على أقدار الله تعالى المؤلمة، قال سبحانه وتعالى: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)) فهذه أنواع من البلايا تحتاج إلى صبر وتصبر، والإنسان عند حلول المصيبة له أربع حالات:
الحالة الأولى: أن يتسخط إما بقلبه أو بلسانه أو بجوارحه، والتسخط بالقلب أن يكون في قلبه شيء على ربه من السخط والشره على الله والعياذ بالله.
وأما باللسان فبالتلفظ بكلمات تدل على سخطه وعدم رضاه بقضاء الله.
وأما بالجوارح مثل أن يلطم خده أو يصفع رأسه، أو يشدّ شعره، أو يشق ثوبه، وما أشبه هذا.
وحال السخط هذه حال الهلعين الذين حرموا من الثواب ولم ينجوا من المصيبة بل الذين اكتسبوا الإثم؛ فصار عندهم مصيبتان، مصيبة في الدين بالسخط، ومصيبة في الدنيا لما أتاهم مما يؤلمهم.
الحالة الثانية: فالصبر على المصيبة بأن يحبس نفسه وهو يكره المصيبة ولا يحبها ولا يحب أن وقعت، لكن يصبر نفسه ولا يسخط.
الحالة الثالثة: الرضا بأن يكون الإنسان منشرحاً صدره بهذه المصيبة ويرضى بها رضاءً تاماً وكأنه لم يصب بها.
الحالة الرابعة: الشكر فيشكر الله عليها وكان الرسول عليه الصلاة والسلام إذا رأى ما يكره قال: الحمد لله على كل حال، فيشكر الله من أجل أن يرتب له من الثواب على هذه المصيبة أكثر مما أصابه.
ومن هذا النوع الصبر على أذى الناس؛ فمخالطتهم لأجل الدعوة إلى الله تعالى والتعليم والتوجيه يحتاج إلى صبر واحتمال وهذا ما نجده في التوجيهات القرآنية الكريمة قال سبحانه: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) ويقول سبحانه: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) ، ويقول عز وجل: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم إذا كان مخالطاً الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم) .
وهذا الرسول الكريم يوسف عليه السلام يجد أنواع الصبر الثلاثة؛ فصبر على أقدار الله تعالى حين ألقي في البئر، وحين سجن بضع سنين.
وصبر على طاعة الله تعالى فهو في السجن يعبد الله تعالى، ويدعو إلى عبادته وتوحيده. وصبر عن معصية الله تعالى حينما دعته امرأة العزيز إلى نفسها فصبر وامتنع، ثم كانت له العاقبة الحسنى في الدنيا والآخرة.
ومما يعين على التخلق بخلق الصبر أمور هي:
1- دعاء الله تعالى والاستعانة به وعدم العجز؛ فهذا خليل الله تعالى إبراهيم عليه السلام كان يدعو فيقول كما أخبر عنه سبحانه: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم يعلم معاذاً أن يقول دبر كل صلاة: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك). وينهى عن العجز فيقول: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز) وفي كل صلاة؛ بل في كل ركعة نقرأ في فاتحة الكتاب (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).
2- تذكر أن طريق الجنة محفوف بالمكاره وطريق النار محفوف بالشهوات؛ فالعبرة بآخر الطريق لا بأوله فمن خاف وصبر نجا وفاز قال عليه الصلاة والسلام: (حُجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره). قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: [(وحفت الجنة بالمكاره) يعني أحيطت بما تكره النفوس؛ لأن الباطل محبوب للنفس الأمارة بالسوء والحق مكروه لها، فإذا تجاوز الإنسان هذا المكروه وأكره نفسه الأمارة بالسوء على فعل الواجبات وعلى ترك المحرمات، فحينئذ يصل إلى الجنة. ولهذا تجد الإنسان يستثقل الصلوات مثلاً، ولا سيما في أيام الشتاء وأيام البرد، ولا سيما إذا كان في الإنسان نوم كثير بعد تعب وجهد، فتجد الصلاة ثقيلة عليه ويكره أن يقوم يصلي ويترك الفراش اللين الدافئ، ولكن إن هو كسر هذا الحاجب وقام بهذا المكروه وصل إلى الجنة. وكذلك النفس الأمارة بالسوء تدعو صاحبها إلى الزنا، والزنا شهوة وتحبه النفس الأمارة بالسوء، لكن إذا عقلها صاحبها وأكرهها على تجنب هذه الشهوة؛ فهذا كره له، ولكن هو الذي يوصله إلى الجنة؛ لأن الجنة حفت بالمكاره].
3- أن يتفكر في حال الدنيا وأهلها الذين اتبعوا شهواتهم، ونالوا جُلّ لذاتهم، وما شبعوا منها وما قنعوا، ثم ماذا؟ رحلوا عنها وما حملوا معهم ما جمعوا ولا ما اختصموا عليه؛ رحلوا وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ليلقوا شرّ ما عملوا، ولهذا فمتاع الدنيا متاع الغرور، [وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى شيئاً يعجبه من الدنيا قال: (اللهم إن العيش عيش الآخرة) وهما كلمتان عظيمتان، فالإنسان إذا نظر إلى الدنيا ربما تعجبه فيلهو عن طاعة الله، فينبغي أن يذكر نعيم الآخرة عند ذلك، ويقارن بينه وبين هذا النعيم الدنيوي الزائل، ثم يُوطن نفسه ويرغبها في هذا النعيم الأخروي الذي لا ينقطع، ويقول (اللهم إن العيش عيش الآخرة). وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فعيش الدنيا – مهما كان – زائل، ومهما كان فمحفوف بالحزن، ومحفوف بالآفات، ومحفوف بالنقص].
4- أن يتذكر ما أعدّه الله تعالى للصابرين على طاعته الصابرين عن معصيته الصابرين على أقداره؛ من الثواب العظيم الذي لا يُقدر بقدر قال سبحانه: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ). فما من قربة إلا وأجرها بتقدير وحساب إلا الصبر، ولأجل أن الصوم من الصبر كان أجره أيضاً عظيماً بغير تقدير، كما أن في المصائب تكفير للذنوب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المسلم من نَصب ولا وَصب ولا هم ولا أذى ولا غمٍ حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه). وفي الحديث: (سبعة يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابّا في الله، اجتمعا عليه، وتفرّقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) . فمن صبر وخاف نجا وفاز قال الله تعالى حاكياً عن حال أهل الجنة: (إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) صبروا على طاعة ربهم، وصبروا عن معصيته، وخافوا عقابه، فأمّنهم يوم يلقونه وأثابهم خلوداً في جنات النعيم، فهنيئاً لهم.
5- أن الله تعالى قد وعد الصابرين بأنه معهم فقال: (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) أي أن الصابر مُعان من قبل الله، وأن الله يعين الصابر ويؤيده ويكلؤه حتى يتم له الصبر على ما يحبه الله عز وجل. ولهذا أيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الصبر ضياء) يعني أنه ضياء يهدي الإنسان عندما تشتد به الكربات إلى الحق، فتطمئن نفسه ويهدأ وجدانه - ولو بعد حين - وينال رضا ربه سبحانه، وعبّر عن ذلك بالضوء؛ لأن الضوء فيه حرارة كضوء الشمس والصبر فيه مشقة كبيرة وتعب.
الأخلاق التي تندرج في خلق الصبر:
- الصبر على الطاعة وعن المعصية يسمى استقامة.
- الصبر عن شهوة البطن والفرج يسمى عفة.
- الصبر في القتال يسمى شجاعة.
- الصبر في كظم الغيظ يسمى حلماً.
- الصبر في إخفاء أمر يسمى كتمان السر.
- الصبر عن فضول العيش يسمى زهداً.
- الصبر على قدر يسير من الحظوظ يسمى قناعة.
وبذلك تكون أكثر الأخلاق الإسلامية داخلة في الصبر، واكتساب صفة الصبر يحمل على اكتساب جملة كبيرة من الأخلاق.
مقتطفات منقولة عن موقع http://alssunnah.com/main/articles.aspx?selected_article_no=1481&search=1