Sunday, January 22, 2012

العبادات معللة بمصالح الخلق -- لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي   

بسم الله الرحمن الرحيم

أقسام الإسلام 

أيها الأخوة، هناك موضوع متعلق بالعبادات، ويمكننا أن نمثل الإسلام إن صحّ التعبير بمثلث مقسم إلى أربعة أقسام:


1. العقيدة:
والعقيدة أخطر شيء في الدين إن صحت العقيدة صحّ العمل، إن صحّ العمل سلمت وسعدت، إن فسدت العقيدة فسد العمل، إن فسد العمل هلكت وشقيت في الدنيا والآخرة، فالعقائد تقع في الدرجة الأولى، في رأس هذه القائمة.

2. العبادات:
أركان الإسلام، الصلاة عماد الدين، الصيام، الزكاة، الحج…

3. المعاملات:
الصدق، الأمانة، الرحمة، الإنصاف، العدل، هناك تفاصيل، أن تلبي دعوى، أن تنصف في حكمك، هذه تسمى المعاملات وهي مهمة جداً لأن العبادات الشعائرية لا تصح ولا تقبل إلا إذا صحت المعاملات، فالصلاة لا نقطف ثمارها إلا بالاستقامة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

أتَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا لَهُ دِرْهَمَ وَلَا دِينَارَ وَلَا مَتَاعَ، قَالَ: الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ يَأْتِي بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُقْعَدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ

[مسلم عن أبي هريرة]

العقائد، والعبادات، والمعاملات، هناك ترابط خطير بين العبادات والمعاملات، فالعبادات الشعائرية كالصلاة، والصوم، والحج، والزكاة لا تصح ولا تقبل إلا إذا صحت العبادات التعاملية.

4. الآداب:
الآداب تؤكد كمال المؤمن، آدابه في الطعام والشراب، آدابه في الضيافة، آدابه في أفراحه، في أتراحه، فصار عندنا عقائد، وعبادات، ومعاملات، وآداب.

الحاجة إلى التدين تنطلق من ضعف الإنسان:
الآن حديثنا عن العبادات، أول حقيقة أن هناك حاجة عند أي إنسان إلى الدين، هذه حاجة فطرية، لماذا؟ لأن الإنسان خلق هلوعاً.
قال تعالى:

(إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً)

[سورة المعارج]

في أصل خلقه هناك نقاط ضعف، فهذا الضعيف يحتاج إلى جهة قوية يحتمي بها، يلجأ إليها، تدعمه، تنصره، فالحاجة الأساسية هي حالة الضعف التي يعاني منها الإنسان:

(إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) إِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21))

[سورة المعارج]

هذا الضعف في أصل خلق الإنسان لا بدّ من أن يبحث صاحبه عن جهة قوية يحتمي بها، تدعمه، تنصره، تلبي طلبه، تجيب دعوته، فالمسلم والفضل لله عرف الإله الحقيقي، عرف خالق السماوات والأرض، عرف من بيده ملكوت كل شيء، عرف الذي في السماء إله وفي الأرض إله، عرف الذي يقول:

(مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26))

[سورة الكهف]

عرف الذي:

(مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا)

[سورة فاطر الآية: 2]

هذه أول نقطة لكن بعض أهل الأرض توهموا أن الشمس إله فعبدوها من دون الله، بعضهم توهم الشمس، بعضهم القمر، بعضهم الحجر، بعضهم المدر، بعضهم البحر، بعضهم بعض الحيوانات كالبقر، بعضهم الجرذان، شيء مخيف، بشكل أو بآخر الحاجة إلى التدين تنطلق من ضعف الإنسان، أما المؤمنون المسلمون عرفوا خالق السماوات والأرض فعبدوه لكن بعض أهل الأرض توهموا آلهة من دون الله.

العبادات في الإسلام معللة بمصالح الخلق:
لذلك موضوع الإنسان لأنه يحس بضعفه يحتاج إلى جهة يعبدها، المؤمن عرف الله، عبد الله من دون هذه الآلهة، في بعض البلاد في آسيا تدخل البقرة إلى محل فواكه، ثمن الفواكه من أعلى الأسعار، تأكل ما تشتهي من هذه الفواكه وصاحب المحل في قمة نشوته، لأن إلهه دخل إلى دكانه، هل تصدقون يوضع روث البقر في غرفة الضيوف، هذه من مخرجات الإله، يتعطرون ببول البقر، اشكروا الله يا جماعة، نحن بنعمة كبيرة نعبد إلهاً واحداً، نعبد خالق السماوات والأرض، فالديانات الوضعية لا يوجد عبادات يوجد طقوس، حركات، وسكنات، وإيماءات، وتمتمات لا معنى لها إطلاقاً، لكن دقق في كلام الإمام الشافعي: العبادات في الإسلام معللة بمصالح الخلق.
فالشريعة رحمةٌ كلها، حكمة كلها، مصالح كلها، عدلٌ كلها، وكل أمرٍ خرج من العدل إلى نقيضه، ومن المصلحة إلى المفسدة، و من العدل إلى الجور ليس من الشريعة ولو أُدْخِل عليها بألف تأويل وتأويل.

1. علة الصيام:
قال تعالى:

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183))

[سورة البقرة]

(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

فكأن علة الصيام بنص هذه الآية هي التقوى، التقوى أن ترى بنور الله، أن تنطق بتوفيق الله، التقوى أن ترى الحق حقاً والباطل باطلاً، التقوى أن ترى الحق فتتبعه وأن ترى الباطل فتجتنبه، التقوى نور يقذفه الله في القلب، أنت حينما تصوم رمضان إيماناً واحتساباً وتدع المباحات، الطعام والشراب مباح، اللقاء الزوجي مباح، تدع في يوم رمضان المباحات تقرباً إلى الله الواحد الديان، فالله عز وجل يلقي في قلبك نوراً يريك به الحق حقاً والباطل باطلاً.
إذاً:

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183))

[سورة البقرة]

فالصيام معلل بالتقوى، العبادات معللة بمصالح الخلق.
فأي إنسان صام رمضان ولم ينتبه إلى حكمته، أو إلى علته، فكأنه ترك الطعام في نهار رمضان وبالغ بأكله في ليل رمضان، وسهرات، وولائم، واختلاط، يقول: خيمة رمضانية تبدأ بأذان المغرب بعد الطعام تنتهي بالرقص و الموسيقا، صار الصيام شهراً اجتماعياً ليس له علاقة بالعبادة إطلاقاً، الحفلات، الولائم، اللقاءات، الاختلاط.
مرة دعيت إلى إلقاء محاضرة في بلد عربي مسلم ـ طبعاً الطعام بفندق ـ أنا توقعت أن الناس كلهم في بيوتها لأنهم صائمون، و إذ وجدت أنه لا يوجد مكان في المطعم كله، نساء بأبهى زينة لا يوجد صلاة مغرب، ولا حجاب، ولا انضباط، ولا شيء، هذا الشهر صار شهراً اجتماعياً و لم يعد عبادة، بعد ذلك كل الأعمال الفنية إكراماً لشهر رمضان المبارك، الفاضحة، المتفلتة، التي تثير الأعصاب إكراماً لشهر رمضان المبارك، اختلف الدين، رمضان شهر عبادة:

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183))

[سورة البقرة]

كي تصل إلى مرتبة التقوى.
كأن النبي أخبرنا عن آخر الزمان:

لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا

[ابن ماجه عن ثوبان]

فنحن إن شاء الله نتمنى أن يكون صيامنا صياماً مقبولاً، هناك استقامة، هناك غض بصر، هناك ضبط لسان، اللهم أعنا على الصيام والقيام وغض البصر وحفظ اللسان.

2. علة الصلاة:
قال الله تعالى:

(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء الْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ)

[سورة العنكبوت الآية: 45]

الصلاة تعطيك الوازع الداخلي، الإنسان ينتهي بالصلاة عن كل معصية، عن كل عدوان، عن كل ظلم، عن كل افتراء، عن كل احتيال، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر هذه علتها:

(تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء الْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ)

أنا أتمنى على الإنسان ألا يصلي صلاة فيها غفلة، فيها حركات، وسكنات، وتمتمات لا معنى لها، إله عظيم أمرك بالصلاة، أمرك أن تتصل به، أن تقبل عليه، أن تدعوه، أن تقترب منه:
قال تعالى:

(وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)

[سورة العلق]

(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14))

[سورة طه]

الصلاة معراج المؤمن، الصلاة طهور، الصلاة نور، الصلاة حبور، الصلاة عقل، الصلاة قرب، الصلاة ذكر، فلذلك ورد في الأثر القدسي:

ليس كل مصلٍّ يصلي، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي، وكفّ شهواته عن محارمي، ولم يصر على معصيتي….

[أخرجه الديلمي عن حارثة بن وهب]

3. علة الزكاة:
قال الله تعالى:

(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا (103))

[سورة التوبة]

(تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)

فالزكاة تطهر الغني من الشح، وتطهر الفقير من الحقد، تطهر المال من تعلق حق الغير به، تزكي نفس الغني فيشعر بقيمته، يشعر أن ماله عاد ابتسامة على أفواه الفقراء، تزكي نفس الفقير يشعر أن المجتمع مهتم به، يحس بقيمته، جاءته المواد والمساعدات تزكي المال، تنمي المال، فالزكاة معللة بالتطهير والتزكية، والصيام معلل بالتقوى، والصلاة معللة بالنهي عن الفحشاء والمنكر،

4. علة الحج:
قال الله تعالى:

(جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97))

[سورة المائدة]

(لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ)

حينما تعلم أن الله يعلم استقمت على أمره،
كل العبادات في الإسلام معللة بمصالح الخلق.

العبادات ليست طقوساً تؤدى شكلياً:
أيها الأخوة، هذا الصيام، هذا الحج، هذه الزكاة، هذه الصلاة، العبادات معللة بمصالح الخلق:
قال الله تعالى:

(خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ (63))

[سورة البقرة]

كيف تأخذه بقوة؟

(وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ (63))

[سورة البقرة]

مثلاً لو أن أباً يطمح أن يكون ابنه من أهل العلم، وألزمه بمعهد، فكلما دخل إلى غرفته فوراً يضع الابن الكتاب، ويوهم أباه أنه يقرأ، طبعاً هذا عمل شكل، الابن سأل الأب كم تريد أن يكون بُعد الكتاب عن طرف الطاولة، ما هذا السؤال؟ قال له: كيفما كان لكن اقرأ، قال: كم تريد أن يكون ميل الكتاب، أو بعده عن الطرف اليميني أو الطرف اليساري، قال له: اقرأ وخلصني فالإنسان إذا نسي الهدف الكبير تعلق بتفاصيل مضحكة، فكلما ابتعدت عن الهدف الكبير انصرفت إلى تفاصيل لا تقدم ولا تؤخر، أما الابن الحقيقي يتعلم، يقرأ ليتعلم.
العبادات ليست طقوساً تؤدى شكلياً، العبادات أعمال معللة بمصالح الخلق، الشريعة عدلٌ كلها، رحمةٌ كلها، حكمة كلها، مصالح كلها، وكل قضية خرجت من العدل إلى الجور، ومن الحكمة إلى خلافها، ومن المصلحة إلى المفسدة، ليست من الشريعة ولو أُدْخِلت عليها بألف تأويل وتأويل.
أيها الأخوة، الذي أتمناه أن تؤدى العبادت الشعائرية ومنها الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، أداءً كما أراد الله، ينبغي أن يسبقها استقامة، لأن الصلاة مثلاً:
قال الله تعالى:

(وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45))

[سورة البقرة]

الصلاة من دون استقامة كبيرة ثقيلة على الإنسان، أما الخاشع:

أرحنا بها يا بلال

[أبو داود عن سالم بن أبي الجعد]

وغير الخاشع أرحنا منها، هذا الفرق بين الخاشع وبين غير الخاشع.
جعلت قرة عيني في الصلاة، فالصلاة مع الاستقامة والعمل الصالح مناسبة للإقبال على الله، والاتصال به، والتمتع بقربه، والسعادة بقربة، من دون استقامة عبء، حركات وسكنات طبعاً تفتح بالتكبير و تنتهي بالتسليم وانتهى الأمر.
قال إنسان لآخر: صليت المغرب أربع ركعات، قال له: لا، بل ثلاثة، سأله هل أنت متأكد؟ قال له: نعم، قال له: ما الدليل؟ قال له: عندي ثلاثة صناديق في عملي التجاري، في فرق بالصناديق الثلاثة بكل ركعة حليت مشكلة صندوق، أنا صليت ثلاثة لا كما تظن.
حلّ كل مشاكله بالصلاة، فكر بهذه القضية، فالتقصير، والمخالفات، والمعاصي تحجب الإنسان عن الله، فالوقفة ليس لها معنى، أي عمل آخر له معنى، تأكل، تلبس، تمشي، لكن الصلاة إذا لم يكن معها استقامة ليس لها معنى، وقوف، وحركات، وسكنات، أما مع الاستقامة والعمل الصالح إقبال على الله، اتصال بالله، قرب من الله، سعادة بالله عز وجل.

بطولة الإنسان أن يستوعب معاني العبادات التي يؤديها:
أيها الأخوة هذا الموضوع عنوانه: “العبادات معلقة بمصالح الخلق”، هذه كلمة قالها الإمام الشافعي، فنحن بالصلاة، بالصوم، بالحج، بالزكاة، المفروض ألا يغيب عنك أبداً حكمة هذه العبادات، ألا يغيب عنك أبداً المقاصد الكبيرة من هذه العبادات، ألا يغيب عنك أبداً أن البطولة لا أن تؤديها أداءً شكلياً، البطولة أن تستوعب معاني هذه العبادات، بصراحة الصيام مناسبة أن تنتقل من حال إلى حال، من مقام إلى مقام، بالصيام تتابع الترقي، لكن بعض الناس بالصيام يدافعون التدني، أنت بالصيام تتابع الترقي، أنت بالصيام تحقق قفزة نوعية.

عظمة هذا الدين أنه ينمي في الإنسان الوازع الداخلي:
لكن دقق لو أن جهة أرضية وضعت قانوناً، أي ممنوع بالقوانين النافذة بالعالم كله أن تستخدم الهاتف المحمول أثناء قيادة السيارة، هذا المنع مرتبط بالشرطي، فإذا لم يكن هناك أي شرطي معظم الناس يستخدمون الهاتف بعيداً عن أعين الشرطة، مرة إنسان تجاوز الإشارة الحمراء، وهناك كمين بعد حين أوقفه وضبطه بهذه المخالفة، قال له: ألم ترَ الإشارة حمراء؟ قال: رأيتها لكن لم أكن أراك، لأن هذه الإشارة مربوطة بشرطي، أما في أمور الدين تدخل إلى بيتك برمضان في شهر آب، درجة الحرارة تقدر بخمسة وأربعين، وتكاد تموت من العطش، والثلاجة فيها الماء البارد، وأنت في البيت وحدك ولا أحد يراك، لا تستطيع أن تضع في فمك قطرة ماء، هذا الدين.

بعني هذه الشاة وخذ ثمنها، قال له الراعي: ليست لي، قال: قل لصاحبها ماتت، قال: والله إنني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدقني، فإني عنده صادق أمين، ولكن أين الله؟

عظمة هذا الدين أنه ينمي فيك الوازع الداخلي، أي مسلم مؤمن يبيع مواد غذائية، فتح مستودع الزيت فإذا في المستودع فأرة هل يستطيع أن يبيع هذا الزيت للناس؟ لا أحد رأى هذه الفأرة أخذها بملقط وألقاها في الحاوية، أما هذا الزيت أصبح نجساً، هل يستطيع إنسان يعبد الله أن يبيع هذا الزيت؟ لا يستطيع، الإيمان قيد، أما أي إنسان آخر غير مؤمن لم يرَ أحد الفأرة فيبيع الزيت، والله أنواع الغش التي يمارسها البعيدون عن الله لا يعلمها إلا الله.
هناك غش، لذلك المؤمن مستقيم، أعظم نتائج الإيمان الاستقامة:

إِنَّ الْإِيمَانَ قَيْدُ الْفَتْكِ، لَا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ

[أحمد عن ابن الزبير]

لذلك النقطة الدقيقة أن العبادات معللة بمصالح الخلق، فالصلاة تنمي فيك الوازع الداخلي، أما القوانين كلها مبنية على الرادع الخارجي، مثلاً تدخل إلى سوق كبير في العالم الغربي، هناك بضائع بألوف المليارات، على مخرج هذا السوق هناك من يحاسبك، فأي مادة تحملها لم تدفع ثمنها فيها مادة معينة تتأثر بها أجهزة موجودة على الأبواب، فجأة، تصدر صوت عجيب، كأن هذا الصوت يقول: هذا سارق، لذلك يدخل ملايين لا أحد يأخذ شيئاً من دون دفع ثمنه، لكن لا يوجد أجر هناك لأن استقامتهم الكترونية، فلو انقطعت الكهرباء وقع في بلد في الغرب مئتا ألف سرقة في ليلة واحدة قيمتها ثلاثين ملياراً، النظام الغربي كله قائم على الرادع الخارجي، والنظام الإسلامي قائم على الوازع الداخلي، الوازع شيء مذهل فقط للتوضيح، لو لم يكن في الإسلام صيام، وأي دولة ارتأت أن الصيام مفيد جداً للناس، فأصدرت مرسوماً وزارياً يُلزم المواطنين بصيام شهر معين، كم إنسان يصوم؟ يدخل للحمام يشرب الماء، مستحيل أن يضبط هذا الأمر أما الدين ضبطه.
أيها الأخوة الكرام، حرم الخمر في أمريكا في عام ثلاثة وثلاثين، قرأت بحثاً مذهلاً، حوالي أربعمئة ألف دخلوا السجون، ومئات أعدموا، وملايين النشرات، والخمر يزداد الإقبال عليه، بل صنعت سفن لتهريب الخمر، وبعد عشر سنوات استسلموا وأباحوا الخمر، انظر إلى المسلم بآية واحدة لا يمكن للمسلم أن يجلس على طاولة فيها خمر، غير الشرب، لا يجلس على طاولة فيها خمر، هذا الدين، الحقيقة مستحيل أن تنتظم الحياة من دون دين، تقول لي: ضمير مسلكي، ضمير مسلكي على ألف يترفع عنهم، أما مليون عنده فتوى، الضمير المسلكي لا يكفي، يقول لك: هذا عنده تربية بيتية لا تكفي، أما إن كان فيه إيمان فلا يمكن أن يأخذ قرشاً حراماً.

والحمد الله رب العالمين
منقول عن: العقيدة – حقائق الإيمان والإعجاز – الدرس (27-30) : العبادات -1- مقدمة – جسم الإنسان
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2009-08-09 | المصدر
http://www.muhammad-pbuh.com/ar/?p=1397